المادة    
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
قال المصنف رحمه الله تعالى: [السبب التاسع: ما ثبت في الصحيحين (أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة).
السبب العاشر: شفاعة الشافعين كما تقدم عند ذكر الشفاعة وأقسامها.
السبب الحادي عشر: عفو أرحم الراحمين من غير شفاعة، كما قال تعالى: (( وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48]، فإن كان ممن لم يشأ الله أن يغفر له لعظم جرمه؛ فلا بد من دخوله إلى الكير ليخلص إيمانه من خبث معاصيه، فلا يبقى في النار من في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، بل من قال: لا إله إلا الله، كما تقدم من حديث أنس رضي الله عنه، وإذا كان الأمر كذلك امتنع القطع لأحد معين من الأمة غير من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، ولكن نرجو للمحسنين ونخاف عليهم]
.
يقول رحمه الله: (السبب التاسع: ما ثبت في الصحيحين)، والحديث ليس في الصحيحين ، وإنما هو في صحيح البخاري وفي مسند الإمام أحمد ، وهذا موضع من مواضع -ربما تصل إلى عشرة أو قريب ذلك- يكون الخطأ فيها في عزو الحديث إلى الصحيحين أو أحدهما، فلعله راجع إلى الشارح رحمه الله أو من ينقل عنه، والغالب أنه ينقل عن ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى، فيكون الوهم قد جاء من أن الشيخ أو الإمام الحافظ أو من نقل عنه كتب ذلك من حفظه، وقد يكون تصحيفاً، وقد يكون الخطأ في الطباعة.
فالحديث ليس في الصحيحين ، إنما هو في البخاري ، فتكون العبارة: (ما ثبت في الصحيح أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار).
  1. خطر المظالم المتعلقة بحقوق العباد

    وفي هذا تأكيد وتغليظ فيما سبق الحديث عنه من حقوق العباد، وهو الديوان الذي لا يترك الله تبارك وتعالى منه شيئاً، فحقوق العباد لا بد من أن يردها الإنسان إما في الدنيا وإما في الآخرة، وقد تقدم ذكر هذا، وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين : ( من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها )، هكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأوصى من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال أو شيء فليتحلله منها اليوم في الدنيا بأن يرد إليه مظلمته، أو بأن يطلب منه أن يعفو عنه وأن يحله منها قبل ألا يكون دينار ولا درهم، فيوم القيامة لا دنانير ولا دراهم، وإنما هي الحسنات، فيؤخذ من حسناته، فإن كفت وإلا أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار، نسأل الله العفو والعافية، وهذا كاف في أن ينزجر المسلم عن حقوق إخوانه المسلمين في الأعراض أو الأموال، وأشد من ذلك وأعظم الدماء؛ ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أول ما يقضى فيه يوم القيامة بين الخلائق في الدماء )، فالدماء أمرها عظيم، وكذلك الأعراض، وكذلك الأموال.
    فلا بد للمسلم من أن يحتاط وأن يتنبه لهذا الخطر العظيم، ولهذا الباب الكبير من أبواب البلاء، والسبب الذي هو من أسباب نزول العقوبة، فلا يجعل للشيطان عليه مدخلاً، بل يحتاط أولاً لئلا يقع منه مظلمة في حق أحد من المسلمين، وقل من ينجو من ذلك، فإن وقع فليتحلل من صاحبه، فإن لم يفعل ذلك فإنه يكون المفلس الذي ورد ذكره في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه: ( أتدرون من المفلس؟ ).
    وذلك من باب التربية والتنبيه على أن الناس لهم موازين ولهم معايير ولهم مصطلحات، ولكن هناك ما هو أولى بهذا الاسم وبهذا المصطلح، وهذا نوع من أنواع التربية اللطيفة الذكية، فالناس دائماً يتعارفون على أمور وعلى أسماء وعلى مصطلحات، فعند جميع الناس المفلس الذي لا درهم له ولا متاع، هكذا يظنون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصيام وصلاة وزكاة، ويأتي وقد شتم عرض هذا، وقذف هذا وأكل مال هذا )، فيأتي أهل الحقوق لأخذ حقوقهم منه، فلا يزالون يأخذون منه حتى تفنى الجبال من حسناته، فإن كفت وإلا أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، نسأل الله العفو والعافية.
    وهؤلاء القوم أهل القنطرة هم نوع آخر كما يظهر، فهذه حالة أخرى غير موقف الحساب والميزان وإعطاء الحقوق، فكأن هذه أمور أخف من تلك، فهي مما يقع بين أناس حسناتهم راجحة -بإذن الله- وكتب الله سبحانه وتعالى لهم السعادة والنجاة، لكن بينهم مظالم، فلا يريد الله تبارك وتعالى أن يدخلوا الجنة حتى يهذبوا وينقوا؛ كما قال تعالى: (( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ))[الحجر:47]؛ إذ لو دخل الإنسان الجنة وما يزال في قلبه على أخيه شيء أو كان عنده مظلمة؛ لكان هذا منغصاً لكمال النعيم؛ لأن الإنسان لو كان في أعظم نعيم ورأى من يشاركه فيه ممن بينه وبينه عداوة أو بغضاء لكان ذلك مما ينكد ويكدر وينغص عليه هذا النعيم، لكن أفضل شيء في مثل هذه الحالة هو أن يعفو وأن يصفح وأن يتحلل، فإذا ذهب ما في القلوب وزال هذا السبب، كان تمتعه بهذا النعيم أفضل، وهذا أمر مشاهد فيما جعله الله تبارك وتعالى في هذه الدنيا من أسباب الفرح؛ فإن الناس في الدنيا يفرحون في المناسبات الطيبة كالأعياد أو الزواج أو ما أشبه ذلك، فكيف يكون حال الإنسان إذا شاركه في عيده أو في فرحه بأمر ما من بينه وبينه نوع من العداوة؟! وهذا حال الدنيا، أما في الآخرة فإن هناك كمال النعيم، وكمال النعيم لا يكون إلا في الجنة، ومن استكمال ذلك ألا يكون في قلب أحد من أهل الجنة على الآخر غل أو حقد أو عداوة، بل تطهر وتنقى هذه القلوب جميعاً، فتدخل في دار الصفاء والنقاء صافية نقية.
    فهذه هي المناسبة الواضحة في هذا الأمر؛ ولذلك فإن إدخاله هنا في ضمن موانع دخول النار ليس مما اتفق عليه العلماء الذين كتبوا في هذا الموضوع، بل بعضهم على ما فعل الشيخ، وبعضهم لم يجعلوا ذلك من موانع دخول النار؛ لأن هذا في حق أهل الجنة فيما بينهم.
    لكن الشارح رحمه الله راعى أمراً، وهو أن هذا يكون قبل دخول الجنة في قنطرة بين الجنة والنار، فرأى أنه لو لم تكن هذه القنطرة ولو لم يكن هذا القصاص في هذا الموضع فلربما كان ذلك داعياً لأن يدخل أحدهم النار ولو مساً خفيفاً، فهذا وجه إدخال الشارح رحمه الله تعالى لهذا السبب وجعله سبباً تاسعاً من أسباب منع دخول جهنم.
  2. ذكر القنطرة وما يكون فيها

    فأول ما نفهم من هذا الحديث أن المؤمنين هنا هم الذين يستحقون دخول الجنة، وأكد هذا وبينه فقال: (إذا عبروا الصراط)، ومعلوم أنه لا يعبر الصراط إلا من نجا؛ فإن الهالكين تخطفهم كلاليب -نسأل الله العفو والعافية- فيقعون في النار، سواءٌ من كان منهم من أهلها الخالدين المخلدين فيها، أو من كان ممن شاء الله تبارك وتعالى أن يعذب فيها ويطهر ثم يخرج منها. فالمقصود أن هذا في حق من كان من أهل النجاة من النار، فقد جاوزوا الصراط، فلا خوف عليهم الآن من دخول النار، ولكنهم يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار، وهذه القنطرة هي المحطة الأخيرة؛ لأنه بعدها لا يكون إلا الجنة، وليس فيهم -إن شاء الله تعالى- من يدخل النار، ولكن هي عبرة وعظة للمؤمنين في الدنيا، وهي تنقية وتطهير لهم في الآخرة، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى لم يجعل الجنة ولم يكتبها إلا لمن يلقاه نقياً خالصاً من الذنوب، وهؤلاء القوم ليس لهم ذنوب تجعلهم من أهل الهلاك وممن يدخل النار أو يستحقها، لكن بقي أمر آخر، وهو آخر ما ينقى منه الإنسان، وهو أن هؤلاء -وهم كلهم من أهل النجاة ومن أهل الجنة- كان بينهم مظالم، فلهذا يوقفون على هذه القنطرة فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فيتم تهذيبهم وتنقيتهم بهذا. وهذا واضح، والشاهد منه أنه جعل هذا أحد الموانع من دخول النار، فكأنه قال: لو لم يهذبوا ولو لم ينقوا لربما كان ذلك موجباً لدخولهم النار، وإن كان هذا -في الحقيقة- إنما يكون بعد أن يكتب الله تبارك وتعالى لهم النجاة.